فصل: تفسير الآية رقم (3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء السادس

سورة المائدة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمة، وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار‏.‏

‏{‏بسم الله‏}‏ أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته ‏{‏الرحمن‏}‏ الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته ‏{‏الرحيم‏}‏ الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته‏.‏

لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبر والأمتثال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا ذلك بألسنتهم ‏{‏أوفوا‏}‏ أي صدقوا ذلك بأن توفوا ‏{‏بالعقود‏}‏ أي العهود الموثقة المحكمة وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر، وأما غير ذلك فليس بعقد، بل حل بيد الشرع القوية، تذكيراً بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك ‏{‏اذكروا نعمتي وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ وإخباراً لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك، فقال على سبيل التعليل مشيراً إلى أن المقصود من النعمة كونها، لا بقيد فاعل مخصوص، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه لا منعم غيره سبحانه‏:‏ ‏{‏أحلت لكم‏}‏ والإحلال من أجل العقود ‏{‏بهيمة‏}‏ وبينها بقوله‏:‏ ‏{‏الأنعام‏}‏ أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا، فيحرم عليكم ما حرم عليهم، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم، ولا تعترضوا على نبيكم، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل، وسيأتي في قوله‏:‏

‏{‏لا تسئلوا عن أشياء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 101‏]‏ ما يؤيد هذا‏.‏

ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة، وهي في الأصل كل حي لا يميز، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة‏:‏ ‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏}‏ أي في بهيمة الأنعام أنه محرم، فإنه لم يحل لكم، ونصب ‏{‏غير محلي الصيد‏}‏ على الحال أدل دليل على أن هذا السياق‏.‏ وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر- فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال، فإن تركتموها انتفى الإحلال، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان ‏{‏ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 119‏]‏ من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً، وفصّلو فيه تفاصيل- كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 103‏]‏ الآية، وكذا في آخر الأنعام، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء- التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث، المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم‏.‏ أتم مناسبة، وقال ابن الزبير‏:‏ لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله‏:‏ «الإسلام ثمانية أسهم‏:‏ الإسلام سهم والشهادة سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له» قلت‏:‏ وهذا الحديث أخرجه البزار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الإسلام ثمانية أسهم‏:‏ الإسلام سهم، والصلاة سهم» فذكره، وصحح الدارقطني وقفه، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قالك «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» الإسلام عشرة أسهم، وقد خاب من لا سهم له‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهي الملة، والثانية‏:‏ الصلاة وهي الفطرة، والثالثة‏:‏ الزكاة وهي الطهور، والرابعة‏:‏ الصوم وهي الجنة، والخامسة‏:‏ الحج وهي الشريعة، والسادسة‏:‏ الجهاد وهي الغزوة، والسابعة‏:‏ الأمر بالمعروف وهو الوفاء والثامنة‏:‏ النهي عن المنكر وهي الحجة، والتاسعة‏:‏ الجماعة وهي الألفة، والعاشرة‏:‏ الطاعة وهي العصمة «

وفي سنده من ينظر في حاله؛ قال ابن الزبير‏:‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بني الإسلام على خمس» أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر وغيره واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «بني الإسلام على خمس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» قال ابن الزبير‏:‏ وقد تحصلت- أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس- فيما مضى، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين- انتهى‏.‏ والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال‏:‏ ‏{‏وأنتم حرم‏}‏ أي أحلت البهيمة مطلقاً إلا ما يتلى عليكم من ميتاتها وغيرها في غير حال الدخول في الإحرام بالحج أو العمرة أو دخول الحرم، وأما في حال الإحرام فلا يحل الصيد أكلاً ولا فعلاً‏.‏

ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها، والأزلام والذبح على النصب، وأخذ الإنسان بجريمة الغير، والفساد في الأرض، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر- إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا، وختم الآية بقوله معللاً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي ملك الملوك ‏{‏يحكم ما يريد *‏}‏ أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره، فما فهمتم حكمته فذاك، وما لا فكلوه إليه، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام- وهذا هو الذي يقوله أصحابنا-‏:‏ إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

ولما استثنى بعض ما أحل على سبيل الإبهام شرع في بيانه، ولما كان منه ما نهى عن التعرض له لا مطلقاً، بل ما يبلغ محله، بدأ به لكونه في ذلك كالصيد، وقدم على ذلك عموم النهي عن انتهاك معالم الحج المنبه عليه بالإحرام، أو عن كل محرم في كل مكان وزمان، فقال مكرراً لندائهم تنويهاً بشأنهم وتنبيهاً لعزائمهم وتذكيراً لهم بما ألزموه أنفسهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي دخلوا في هذا الدين طائعين ‏{‏لا تحلو شعائر الله‏}‏ أي معالم حج بيت الملك الأعظم الحرام، أو حدوده في جميع الدين، وشعائر الحج أدخل في ذلك، والاصطياد أولاها‏.‏

ولما ذكر ما عممه في الحرم أو مطلقاً، أتبعه ما عممه في الزمان فقال‏:‏ ‏{‏ولا الشهر الحرام‏}‏ أي فإن ذلك لم يزل معاقداً على احترامه في الجاهلية والإسلام، ولعله وحده والمراد الجمع إشارة إلى أن الأشهر الحرم كلها في الحرمة سواء‏.‏

ولما ذكر الحرم والأشهر الحرم ذكر ما يهدى للحرم فقال‏:‏ ‏{‏ولا الهدي‏}‏ وخص منه أشرفه فقال‏:‏ ‏{‏ولا القلائد‏}‏ أي صاحب القلائد من الهدي، وعبر بها مبالغة في تحريمه؛ ولما أكد في احترام ما قصد به الحرم من البهائم رقّى الخطاب إلى من قصده من العقلاء، فإنه مماثل لما تقدمه في أن قصد البيت الحرام حامٍ له وزاجر عنه، مع ما زاد به من شرف العقل فقال‏:‏ ‏{‏ولا آمين‏}‏ أي ولا تحلوا التعرض لناس قاصدين ‏{‏البيت الحرام‏}‏ لأن من قصد بيت الملك كان محترماً باحترام ما قصده‏.‏

ولما كان المراد القصد بالزيارة بقوله‏:‏ ‏{‏يبتغون‏}‏ أي حال كونهم يطلبون على سبيل الاجتهاد ‏{‏فضلاً من ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم شكراً لإحسانه، بأن يثيبهم على ذلك، لأن ثوابه لا يكون على وجه الاستحقاق الحقيقي أصلاً؛ ولما كان الثواب قد يكون مع السخط قال‏:‏ ‏{‏ورضواناً‏}‏ وهذا ظاهر في المسلم، ويجوز أن يراد به أيضاً الكافر، لأن قصده البيت الحرام على هذا الوجه يرق قلبه فيهيئه للإسلام، وعلى هذا فهي منسوخة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن لم يكونوا كذلك‏.‏ أي في أصل القصد ولا في وصفه- فهم حل لكم وإن لم تكونوا أنتم حرماً، والصيد حلال لكم، عطف عليه التصريح بما أفهمه التقييد فيما سبق بالإحرام فقال‏:‏ ‏{‏وإذا حللتم‏}‏ أي من الإحرام بقضاء المناسك والإحصار ‏{‏فاصطادوا‏}‏ وترك الشهر الحرام إذ كان الحرام فيه حراماً في غيره، وإنما صرح به تنويهاً بقدره وتعظيماً لحرمته، ثم أكد تحريم قاصد المسجد الحرام وإن كان كافراً، وإن كان على سبيل المجازاة بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم‏}‏ أي يحملنكم ‏{‏شنئان قوم‏}‏ أي شدة بغضهم‏.‏

ولما ذكر البغض أتبعه سببه فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ على سبيل الاشتراط الذي يفهم تعبير الحكم به أنه سيقع، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والتقدير في قراءة الباقين بالفتح‏:‏ لأجل أن ‏{‏صدوكم‏}‏ أي في عام الحديبية أو غيره ‏{‏عن المسجد الحرام‏}‏ أي على ‏{‏أن تعتدوا‏}‏ أي يشتد عدوكم عليهم بأن تصدوهم عنه أو بغير ذلك، فإن المسلم من لم يزده تعدي عدوه فيه حدود الشرع إلا وقوفاً عند حدوده، وهذا قبل نزول

‏{‏إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ سنة تسع‏.‏

ولما نهاهم عن ذلك، وكان الانتهاء عن الحظوظ شديداً على النفوس، وكان لذلك لا بد في الغالب من منتهٍ وآبٍ، أمر بالتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البر‏}‏ وهو ما اتسع وطاب من حلال الخير ‏{‏والتقوى‏}‏ وهي كل ما يحمل على الخوف من الله، فإنه الحامل على البر، فإن كان منكم من اعتدى فتعاونوا على رده، وإلا فازدادوا بالمعاونة خيراً‏.‏

ولما كان المعين على الخير قد يعين على الشر قال تنبيهاً على الملازمة في المعاونة على الخير، ناهياً أن يغضب الإنسان لغضب أحد من صديق أو قريب إلا إذا كان الغضب له داعياً إلى بر وتقوى‏:‏ ‏{‏ولا تعانوا على الإثم‏}‏ أي الذنب الذي يستلزم الضيق ‏{‏والعدوان‏}‏ أي المبالغة في مجاوزة الحدود والانتقام والتشفي وغير ذلك وكرر الأمر بالتقوى إشارة إلى أنها الحاملة على كل خير فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا‏}‏ أي الذي له صفات الكمال لذاته فلا تتعدوا شيئاً من حدوده؛ ولما كان كف النفس عن الانتقام وزجرها عن شفاء داء الغيظ وتبريد غلة الاحن في غاية العسر، ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏شديد العقاب‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

ولما أتم الكلام على احترام أعظم المكان وأكرم الزمان وما لابسهما، فهذب النفوس بالنهي عن حظوظها، وأمر بعد تخليتها عن كل شر بتحليتها بكل خير عدّد على سبيل الاستئناف ما وعد بتلاوته عليهم مما حرم مطلقاً إلا في حال الضرورة فقا‏:‏ ‏{‏حرمت‏}‏ بانياً الفعل للمفعول لأن الخطاب لمن يعلم أنه لا محرم إلا الله، وإشعاراًَ بأن هذه الأشياء لشدة قذارتها كأنها محرمة بنفسها ‏{‏عليكم الميتة‏}‏ وهي ما فقد الروح بغير ذكاة شرعية، فإن دم كل ما مات حتف أنفه يحبس في عروقه ويتعفن ويفسد، فيضر أكله البدن بهذا الضرر الظاهر، والدين بما يعلمه أهل البصائر ‏{‏والدم‏}‏ أي المسفوح، وهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ‏{‏ولحم الخنزير‏}‏ خصة بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارة أكله كالدين ‏{‏وما أهل‏}‏ ولما كان القصد في هذه السورة إلى حفظ محكم العهود المذكر بجلاله الباهر، قدم المفعول له فقال‏:‏ ‏{‏لغير الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏به‏}‏ أي ذبح على اسم غيره من صنم أو غيره على وجه التقرب عبادة لذلك الشيء، والإهلاك‏:‏ رفع الصوت‏.‏

ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره، نص عليه فقال‏:‏ ‏{‏والمنخنقة‏}‏ أي بحبل ونحوه، سواء خنقها أو لا ‏{‏والموقوذة‏}‏ أي المضروبة بمثقل، من‏:‏ وقذه- إذا ضربه ‏{‏والمتردية‏}‏ أي الساقطة من عال، المضطربة غالباً في سقوطها ‏{‏والنطيحة‏}‏ أي التي نطحها فماتت ‏{‏وما أكل السبع‏}‏ أي كالذئب والنسر ونحوهما‏.‏

ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى، استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏ أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال‏:‏ ‏{‏ما ذبح على النصب‏}‏ وهو واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها ‏{‏وأن تستقسموا‏}‏ أي تطلبوا على ما قسم لكم ‏{‏بالأزلام‏}‏ أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة، على واحد‏:‏ أمرني ربي، وعلى آخر‏:‏ نهاني ربي، والآخر غفل، فإن خرج الآمر فعل، أو الناهي ترك، أو الغفل أجيلت ثانية، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح وقال صاحب كتاب الزينة‏:‏ يقال‏:‏ إنه كانت عندهم سبعة قداح مستوية من شوحط، وكانت بيد السادن، مكتوب عليها «نعم» «لا» «منكم» «من غيركم» «ملصق» «العقل» «فضل العقل» فكانوا إذا اختلفوا في نسب الرجل جاؤوا إلى السادن بمائة درهم، ثم قالوا للصنم‏:‏ يا إلهنا‏!‏ قد تمارينا في نسب فلان، فأخرج علينا الحق فيه، فتجال القداح فإن خرج القدح الذي عليه «منكم» كان أوسطهم نسباً، وإن خرج الذي عليه «من غيركم» كان حليفاً وإن خرج «ملصق» كان على منزلته لا نسب له ولا حلف، وإذا أرادوا سفراً أو حاجة جاؤوا بمائة فقالوا‏:‏ يا إلهنا‏!‏ أردنا كذا، فإن خرج «نعم» فعلوا، وإن خرج «لا» لم يفعلوا، وإن جنى أحدهم جناية، فاختلفوا فيمن يحمل العقل جاؤوا بمائة فقالوا‏:‏ يا إلهنا‏!‏ فلان جنى عليه، أخرج الحق، فإن خرج القدح الذي عليه «العقل» لزم من ضرب عليه وبرئ الآخرون، وإن خرج غيره كان على الآخرين العقل، وكانوا إذا عقلوا العقل ففضل الشيء منه تداروا فيمن يحمله، فضربوا عليه؛ فإن خرج القدح الذي عليه «فضل العقل» للذي ضرب عليه لزمه، وإلا كان على الآخرين الذين لم يضرب عليهم فهذا الاستقسام الذي حرمه الله لأنه يكون عند الأصنام ويطلبون ذلك منها، ويظنون أن الذي أخرج لهم ذلك هو الصنم، وأما إجالة السهام لا على هذا الوجه فهو جائز، هو وتساهم واقتراع لا استقسام وقال أبو عبيدة‏:‏ واحد الأزلام زلم- بفتح الزاء، وقال بعضهم بالضم وهو القدح لا ريش له ولا نصل، فإذا كان مريَّشاً فهو السهم- والله أعلم؛ ويجوز أن يراد مع هذا ما كانوا يفعلونه في الميسر- على ما مضى في البقرة، فإنه طلب معرفة ما قسم من الجزور، ويلتحق بالأول كل كهانة وتنجيم، وكل طيرة يتطيرها الناس الآن من التشاؤم ببعض الأيام وبعض الأماكن والأحوال، فإياك أن تعرج على شيء من الطيرة، فتكون على شعبة جاهلية، ثم إياك‏!‏‏.‏

ولما كانت هذه الأشياء شديدة الخبث أشار إلى تعظيم النهي عنها بأداة البعد وميم الجمع فقال‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الذي ذكرت لكم تحريمه ‏{‏فسق‏}‏ أي فعله خروج من الدين‏.‏

ولما كانت هذه المنهيات معظم دين أهل الجاهلية، وكان سبحانه قد نهاهم قبلها عن إحلال شعائر الله والشهر الحرام وقاصدي المسجد الحرام بعد أن كان أباح لهم ذلك في بعض الأحوال والأوقات بقوله ‏{‏وأخرجوهم من حيث أخرجوكم- ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏ علم أن الأمر بالكف عن انتهاز الفرص إنما هو للأمن من الفوت، وذلك لا يكون إلا من تمام القدرة، وهو لا يكون إلا بعد كمال الدين وإظهاره على كل دين- كما حصل به الوعد الصادق، وكذا الانتهاء عن جميع هذه المحارم إنما يكون لمن رسخ في الدين قدمه، وتمكنت فيه عزائمه وهممه، فلا التفات له إلى غيره ولا همه إلى سواه، ولا مطمع لمخالفه فيه، فعقب سبحانه النهي عن هذه المناهي كلها بقوله على سبيل النتيجة والتعليل‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ أي وقت نزول هذه الآية ‏{‏يئس الذين كفروا‏}‏ أي لابسوا الكفر سواء كانوا راسخين فهي أو لا ‏{‏من دينكم‏}‏ أي لم يبق لكم ولا لأحد منكم عذر في شيء من إظهار الموافقة لهم أو التستر من أحد منهم، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كاتبهم ليحمي بذلك ذوي رحمه، لأن الله تعالى قد كثركم بعد القلة، وأعزكم بعد الذلة، وأحيى بكم منار الشرع، وطمس معالم شرع الجهل، وهدّ منار الضلال، فأنا أخبركم- وأنتم عالمون بسعة علمي- أن الكفار قد اضمحلت قواهم، وماتت هممهم، وذلت نخوتهم، وضعفت عزائمهم، فانقطع رجاؤهم عن أن يغلبوكم أو يستميلوكم إلى دينهم بنوع استمالة، فإنهم رأوا دينكم قد قامت منائره، وعلت في المجامع منابره، وضرب محرابه، وبرّك بقواعده وأركانه، ولهذا سبب عما مضى قوله‏:‏ ‏{‏فلا تخشوهم‏}‏ أي أصلاً ‏{‏واخشون‏}‏ أي وامحضوا الخشية لي وحدي، فإن دينكم قد أكمل بدره، وجل عن المحلق محله وقدره، ورضي به الآمر، ومكنه على رغم أنف الأعداء‏.‏

وهو قادر على ذلك، وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع، نصاً على البعض، وبياناً لطريق القياس في الباقي، وذلك بيان لجميع الأحكام، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملاً لكنه بغير هذا المعنى، بل إلى حين ثم يزيد فيه سبحانه ما يشاء، فيكون به كاملاً أيضاً وأكمل مما مضى، وهكذا إلى هذه النهاية، وكان هذا هو المراد من قوله‏:‏ ‏{‏وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل، ليظهر بهم الدين، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ‏{‏ورضيت لكم الإسلام‏}‏ أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة ‏{‏ديناً‏}‏ تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم؛ روى البخاري في المغازي وغيره، ومسلم في آخر الكتاب، والترمذي في التفسير، والنسائي في الحج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رجلاً من اليهود قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال‏:‏ أي آية‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة» وفي التفسير من البخاري عن طارق بن شهاب «قالت اليهود لعمر‏:‏ إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر‏:‏ إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت» وقال البغوي‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان ذلك اليوم خمسة أعياد‏:‏ جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده، قلت‏:‏ ويوم الجمعة هو اليوم الذي أتم الله فيه خلق هذه الموجودات بخلق آدم عليه السلام بعد عصره، وهو حين نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى، فكانت تلك الساعة من ذلك اليوم تماماً ابتداء، وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«ما يبكيك يا عمر‏؟‏ فقال‏:‏ أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، قال‏:‏ صدقت‏!‏» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً وقد روي أنه كان هجيري النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من العصر إلى الغروب شهد الله أنه لا إله إلا هو- الآية، وكأن ذلك كان جواباً منه صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، لفهمه صلى الله عليه وسلم أن إنزال آية سر الإسلام وأعظمه وأكمله، وهذه الآية من المعجزات، لأنها إخبار بمغيب صدقها فيه الواقع‏.‏

ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات، فقال مسبباً عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين‏:‏ ‏{‏فمن اضطر‏}‏ أي ألجئ إلجاء عظيماً- من أي شيء كان- إلى تناول شيء مما مضى أنه حرم، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه ‏{‏في مخمصة‏}‏ أي مجاعة عظيمة ‏{‏غير متجانف‏}‏ أي متعمد ميلاً ‏{‏لإثم‏}‏ أي بالأكل على غير سد الرمق، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه بضرب قهر، وزاد بعد هذا التقييد تخويفاً بقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏غفور رحيم *‏}‏ أي يمحو عنه إثم ارتكابه للمنهي ولا يعاقبه عليه ولا يعاتبه ويكرمه، بأن يوسع عليه من فضله، ولا يضطره مرة أخرى- إلى غير ذلك من الإكرام وضروب الأنعام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

ولما تقدم إحلال الصيد وتحريم الميتة، وختم ذلك بهذه الرخصة، «وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الكلاب» وكان الصيد ربما مات في يد الجارح قبل إدراك ذكاته، سأل بعضهم عما يحل من الكلاب، وبعضهم عما يحل من ميتة الصيد إحلالاً مطلقاً لا بقيد الرخصة، إذ كان الحال يقتضي هذا السؤال؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن أبي رافع رضي الله عنه قال‏:‏ «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، فقال الناس‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يسئلونك‏}‏»‏.‏

ولما كان هذا إخباراً عن غائب قال‏:‏ ‏{‏ماذا أحل لهم‏}‏ دون «لنا» قال الواحدي‏:‏ أي من إمساك الكلاب وأكل الصيود وغيرها، أي من المطاعم، ثم قال الواحدي‏:‏ رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه، وذكر المفسرون شرح هذه القصة، قال‏:‏ قال أبو رافع رضي الله عنه‏:‏ جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه، فأذن له فلم يدخلن فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قد أذنا لك‏!‏ قال‏:‏ أجل يا رسول الله‏!‏ ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب، فنظر فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع‏:‏ فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلباً إلا قتلته، حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الكلاب جاء أناس فقالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها‏؟‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه، وأمر بقتل الكلاب الكلب والعقور ما يضر ويؤذي، ورفع القتل عما سواها مما لا ضر فيه، وقال سعيد بن جبير‏:‏ نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين رضي الله عنهما، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وذلك أنهما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا‏:‏ «يا رسول الله‏!‏ إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏يسئلونك‏}‏ الآية ‏{‏الطيبات‏}‏ يعني الذبائح، و‏{‏الجوارح‏}‏ الكواسب من الكلاب وسباع الطير» انتهى‏.‏

فإذا أريد كون الكلام على وجه يعم قيل‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم في جواب من سأل ‏{‏أحل‏}‏ وبناه للمفعول طبق سؤالهم ولأن المقصود لا كونه من معين ‏{‏لكم الطيبات‏}‏ أي الكاملة الطيب، فلا خبث فيها بنوع تحريم ولا تقذر، من ذوي الطباع السليمة مما لم يرد به نص ولا صح فيه قياس، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرمونه على أنفسهم من السائبة وما معها، وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم ‏{‏وما‏}‏ وهو على حذف مضاف للعلم به، فالمعنى‏:‏ وصيد ما ‏{‏علمتم من الجوارح‏}‏ أي التي من شأنها أن تجرح، أو تكون سبباً للجرح وهو الذبح، أو من الجرح بمعنى الكسب ‏{‏ويعلم ما جرحتم بالنهار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ وهو كواسب الصيد من السباع والطير، فأحل إمساكها للقنية وصيدها وشرط فيه التعليم، قال الشافعي‏:‏ والكلب لا يصير معلماً إلا عند أمور‏:‏ إذا أشلى استشلى، وإذا زجر انزجر وحبس ولم يأكل، وإذا دعي أجاب، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر حداً لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من نص ولا إجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وبنى الحال من الكلاب وإن كان المراد العموم، لأن التأديب فيها أكثر فقال‏:‏ ‏{‏مكلبين‏}‏ أي حال كونكم متكلفين تعليم هذه الكواسب ومبالغين في ذلك، قالوا‏:‏ وفائدة هذه الحال أن يكون المعلم نحريراً في علمه موصوفاً به، وأكد ذلك بحال أخرى أو استئناف فقال‏:‏ ‏{‏تعلمونهن‏}‏ وحوشاً كنَّ أو طيوراً ‏{‏مما علمكم الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال من علم التكليب، فأفاد ذلك أن على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ من غير متقن قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النجارين إبهامه‏!‏ ثم سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فكلوا‏}‏‏.‏

ولما كان في الصيد من العظم وغيره ما لا يؤكل قال‏:‏ ‏{‏مما أمسكن‏}‏ أي الجوارح مستقراً إمساكها ‏{‏عليكم‏}‏ أي على تعليمكم، لا على جبلتها وطبيتعها دون تعليمكم، وذلك هو الذي لم يأكلن منه وإن مات قبل إدراك ذكاته، وأما ما أمسك الجارح على أي مستقراً على جبلته وطبعه، ناظراً فيه إلى نفاسه نفسه فلا يحل ‏{‏واذكروا اسم الله‏}‏ أي الذي له كل شيء ولا كفوء له ‏{‏عليه‏}‏ أي على ما أمسكن عند إرسال الجارح أو عند الذبح إن أدركت ذكاته، لتخالفوا سنة الجاهلية وتأخذوه من مالكه، وقد صارت نسبة هذه الجملة‏.‏ كما ترى‏.‏ إلى ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ نسبة المستثنى إلى المستثنى منه، وإلى مفهوم غير محلي الصيد وانتم حرم نسبة الشرح‏.‏

ولما كان تعليم الجوارح أمراً خارجاً عن العادة في نفسه وإن كان قد كثر، حتى صار مألوفاً، وكان الصيد بها أمراً تُعجب شرعته وتهز النفوس كيفيتُه، ختم الآية بما هو خارج عن عادة البشر وطرقها من سرعة الحساب ولطف العلم بمقدار الاستحقاق من الثواب والعقاب، فقال محذراً من إهمال شيء مما رسمه‏:‏ ‏{‏واتقوا‏}‏ أي حاسبوا أنفسكم واتقوا ‏{‏الله‏}‏ أي عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء فيما أدركتم ذكاته وما لم تدركوها، وما أمسكه الجارح عليكم وما أمسكه على نفسه- إلى غير ذلك من أمور الصيد التي لا يقف عندها إلا من غلبت عليه مهابة الله واستشعر خوفه، فاتقاه فيما أحل وما حرم، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الجامع لمجامع العظمة ‏{‏سريع الحساب *‏}‏ أي عالم بكل شيء وقادر عليه في كل وقت، فهو قادر على كل جزاء يريده، لا يشغله أحد عن أحد ولا شأن عن شأن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما كان قد تقدم النهي عن نكاح المشركات، والمنافرة لجميع أصناف الكفار، وبيان بغضهم وعداوتهم، والحث على طردهم ومنابذتهم ‏{‏هآ أنتم أولاء تحبونهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏ ونحوها لضعف الأمر إذ ذاك وشدة الحاجة إلى إظهار الفظاظة والغلظة لهم لتعظيم دين الله، حتى كانت خلطتهم من أمارات النفاق‏.‏ كما سيأتي في كثير من آيات هذه السورة، وكان الدين وصل عند نزولها من العظمة إلى حد لا يحتاج في إلى تعظيم معظم، وكانت مخالطة أهل الكتاب لا بد منها عند فتوح البلاد التي وعد الصادق بهان وسبق في الأزل علمها، فكانت الفتنة في مخالطتهم قد صارت في حد الأمن وسّع الأمر بحل طعامهم ونسائهم، فقال تعالى مكرراً ذكر الوقت الذي أنزل فيه هذه الآيات، تنبيهاً على عظم النعمة فيه بتذكر ما هم فيه من الكثرة والأمن والجمع والألفة، وتذكر ما كانوا فيه قبل ذلك من القلة والخوف والفرقة، فقال معيداً لصدر الآية التي قبلها إعلاماً بعظم النعمة فيه، ومفيداً بذكر وقت الإحلال أنه إحلال مقصود به الثبات، لكونه يوم إتمام النعمة فهو غير الأول‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏‏.‏

ولما كان القصد إنما هو الحل، لا كونه من محل معين، مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله، بني الفعل للمجهول فقال‏:‏ ‏{‏أحل‏}‏ أي ثبت الإحلال فلا ينسخ أبداً ‏{‏لكم‏}‏ أي أيها المؤمنون ‏{‏الطيبات‏}‏ أي التي تقدم في البقرة وصفها بالحل لزوال الإثم وملاءمة الطبع، فهي الكاملة في الطيب‏.‏

ولما كانت الطيبات أعم من المآكل قال‏:‏ ‏{‏وطعام الذين‏}‏ ولما كان سبب الحل الكتاب، ولم يتعلق بذكر مؤتيه غرض، بني الفعل للمجهول فقال‏:‏ ‏{‏أوتوا الكتاب‏}‏ أي مما يصنعونه أو يذبحونه، وعبر بالطعام الشامل لما ذبح وغيره وإن كان المقصود المذبوح، لا غيره، ولا يتخلف حاله من كتابي ولا غيره تصريحاً بالمقصود ‏{‏حل لكم‏}‏ أي تناوله لحاجتكم، أي مخالطتهم للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية، ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم زاده تأكيداً بقوله‏:‏ ‏{‏وطعامكم حل لهم‏}‏ أي فلا عليكم في بذله لهم ولا عليهم في تناوله‏.‏

ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها، وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم، وكانت المطاعم حلالاً من الجانبين والمناكح من جانب واحد قال‏:‏ ‏{‏والمحصنات‏}‏ أي الحرائر ‏{‏من المؤمنات‏}‏ ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب فقال‏:‏ ‏{‏والمحصنات‏}‏ أي الحرائر ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ وبني الفعل للمفعول للعلم بمؤتيه مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض‏.‏

ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ أي وهم اليهود والنصارى، وعبر عن العقد بالصداق للملابسة فقال مخرجاً للأمة لأنها لا تعطى الأجر وهو الصداق، لأنها لا تملكه بل يعطاه سيدها‏:‏ ‏{‏إذا آتيتموهن أجورهن‏}‏ أي عقدتم لهن، ودل مساق الشرط على تأكد وجوب الصداق، وأن من تزوج وعزم على عدم الإعطاء، كان في صورة الزاني، وورد فيه حديث، وتسميته بالأجر تدل على أنه لا حد لأقله‏.‏

ولما كان المراد بالأجر المهر، وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضاً، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏محصنين‏}‏ أي قاصدين الإعفاف والعفاف ‏{‏غير مسافحين‏}‏ أي قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهاراً ‏{‏ولا متخذي أخذان‏}‏ أي صدائق لذلك في السر، جمع خدن، وهو يقع على الذكر والأنثى، فكانت هذه الآية مخصصة لقوله تعالى ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏ فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهن من جميع المشركات حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام، وصرح هنا بالمؤمنات المقتضي لهن قوله تعالى في النساء ‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ وقوله ‏{‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ ولعل ذكر وصف الإحصان الواقع على العفة للتنبيه على أنه لا يقصد المتصفة بغيره لمجرد الشهوة إلا من سلب الصفات البشرية، وأخلد إلى مجرد الحيوانية، فصار في عداد البهائم، بل أدنى، مع أن التعليق بذلك الوصف لا يفهم الحرمة عند فقده، بل الحل من باب الأولى، لأن من حكم مشروعية النكاح الإعفاف، فإذا شرع إعفاف العفائف كان شرع إعفاف غيرهن أولى، لأن زناها إما لشهوة أو حاجة، وكلاهما للنكاح مدخل عظيم في نفيه‏.‏ والله أعلم‏.‏

ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة، وكانت الفتنة- وإن علا الدين روسخ الإيمان واليقين‏.‏ لم تنزل عن درجة الإمكان، وكانت الصلاة تسمى إيماناً لأنها من أعظم شرائعه ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ أي صلاتكم، وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» وله في الأوسط أيضاً بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وإن فسدت فقد خاب وخسر «وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها، ولهذا أنزلت آية ‏{‏حافظوا على الصلوات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ كما مضى بالمحل الذي هي به، لما كان ذلك كذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى منفرداً من نكاحهن بعد إحلاله، إشارة إلى أن الورع ابتعد عنه، امتثالاً للآيات الناهية عن موادة المحاد لئلا يحصل ميل فيدعو إلى المتابعة، أو يحصل ولد، فتستميله لدينها‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي أحل لكم ذلك والحال أنه من ‏{‏يكفر‏}‏ أي يوجد ويجدد الكفر على وجه طمأنينة القلب به والاستمرار عليه إلى الموت ‏{‏بالإيمان‏}‏ أي بسبب التصديق القلبي بكل ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب، الذي منه حل الكتابيات، فيدعوه ذلك إلى نكاحهن، فتحمله الخلطة على اتباع دينهن، فيكفر بسبب ذلك التصديق فيكفر بالصلاة التي يلزم من الكفر بها الكفر به، فإطلاقه عليها تعظيم لها

‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ أي صلاتكم ‏{‏فقد حبط‏}‏ أي فسد ‏{‏عمله‏}‏ أي إذا اتصل ذلك بالموت بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وهو في الآخرة من الخاسرين *‏}‏ والآية من أدلة إمانا الشافعي على استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، فحيث قصد التحذير من الكفر حقيقة فالإيمان حقيقة وحيث أريد الترهيب من إضاعة الصلاة فهو مجاز، ومما يؤيد ذلك أن في السفر الثاني من التوراة‏:‏ لا تعاهدن سكان الأرض لكيلا تضلوا بأوثانهم، وتذبحوا لآلهتهم، أو يدعوك فتأكل من ذبائحهم، وتزوج بنيك من بناتهم وبناتك من بنيهم، فتضل بناتك خلف آلهتهم ويضل بنوك بآلهتهم، وقال في الخامس منها‏:‏ وإذا أدخلكم الله ربنا الأرض التي تدخلونها لترثوها، وأهلك شعوباً كثيرة من بين أيديكم‏:‏ حتانيين وجرجسانيين وأمورانيين وكنعانيين وفرزانيين وحاوانيين ويابسانيين‏.‏ سبعة شعوب أكثر وأقوى منكم، ويدفعهم الله ربكم في أيديكم فاضربوهم واقتلوهم وانفوهم وحرموهم ولا تعاهدوهم عهداً ولا ترحموهم، وتحاشوهم ولا تزوجوا بناتكم من بنيهم، ولا تزوجوا بنيكم من بناتهم لئلا يغوين بنيكم عن عبادتي، ويخدعنهم فيعبدوا آلهة أخرى، ويشتد غضب الرب عليكم ويهلككم سريعاً، ولكن اصنعوا بهم هذا الصنيع‏:‏ استأصلوا مذابحهم، وكسروا أنصابهم، وحطموا أصنامهم المصبوغة، وأحرقوا أوثانهم المنحوتة، لأنكم شعب طاهر لله ربكم- انتهى‏.‏ وإذا تأملت جميع ذلك، وأمعنت فيه النظر لاح لك سرُّ تعقيبها بقوله تعالى في سياق مشير إلى البشارة بأن هذه الأمة تطيع ولا تعصى فتؤمن ولا تكفر، لما خص به كتابها من البيان الأتم في النظم المعجز مع شرف التذكير بما أفاضه من شرف جليل الأيادي، فافتتح هذه السورة بالأمر بالوفاء بحق الربوبية، وأتبعه التذكير بما وفى به سبحانه من حق الربوبية من نوع المنافع في لذة المطعم وتوابعه ولذة المنكح وتوابعه، وقدم المطعم لأن الحاجة إليه فوق الحاجة إلى المنكح، فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية، وقدم منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا به‏!‏ صدقوه بأنكم ‏{‏إذا‏}‏ عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة ‏{‏قمتم‏}‏ أي بالقوة، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام ‏{‏إلى الصلاة‏}‏ أي جنسها محدثين، لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى

‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ الثابت أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد عصر يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم على ناقته يخطب، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما‏:‏ «ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة والترمذي عن جابر رضي الله عنه، فقوله «المصلون» إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة، فما دامت قائمة فهو زائل، ومتى زالت والعياذ بالله- رجع، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» بين العبد والكفر ترك الصلاة «وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة «‏.‏ ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط‏:‏ ‏{‏فاغسلوا‏}‏ أي لأجل إرادة الصلاة، ومن هنا يعلم وجوب النية، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية ‏{‏وجوهكم‏}‏ وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة، لأنه من الحرج، وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب ‏{‏وأيديكم‏}‏‏.‏

ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم‏:‏ ‏{‏إلى المرافق‏}‏ أي آخرها، أخذاً من بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدل كقوله تعالى ‏{‏من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ وتارة لا تدخل كقوله تعالى ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى اللّيل‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ والمرفق ملتقى العظمين، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً ‏{‏وامسحوا‏}‏ ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه، بل أتى بالباء فقال‏:‏ ‏{‏برءوسكم‏}‏ علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف‏:‏ المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح‏.‏

ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً، قرئ‏:‏ ‏{‏وأرجلكم‏}‏ بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب، قال في القاموس‏:‏ المسح كالمنع‏:‏ إمرار اليد على الشيء السائل‏.‏ فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صلى الله عليه وسلم، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل‏.‏

ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل- كما مضى في المرافق، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل‏:‏ ‏{‏إلى الكعبين‏}‏ وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين، ولو قيل‏:‏ إلى الكعاب، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل- كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب، لأن عادة العرب- كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب- أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب‏:‏ ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضاً، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض، لظهور الكفار وغلبتهم، كما كان المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه، عاطفاً على ما تقديره‏:‏ هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر‏:‏ ‏{‏وإن كنتم‏}‏ أي حال القصد للصلاة ‏{‏جنباً‏}‏ أي ممنين باحتلام أو غيره ‏{‏فاطهروا‏}‏ أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء‏.‏

ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء، وبدأ بالوضوء لعمومه، ذكر الطهارة رخصة بالتراب، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ أي بجراح أو غيره، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب ‏{‏أو على سفر‏}‏ طويل أو قصير كذلك، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال ‏{‏أو جاء أحد منكم‏}‏ وهو غير جنب ‏{‏من الغائط‏}‏ أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره‏.‏ كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له، فغضب وقال‏:‏ كأنك ما تعرفني‏؟‏ فقال بلى والله‏!‏ إني لأعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة‏.‏

ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا ‏{‏فلم تجدوا ماء‏}‏ أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره ‏{‏فتيمموا‏}‏ أي اقصدوا قصداً متعمداً ‏{‏صعيداً‏}‏ أي تراباً ‏{‏طيباً‏}‏ أي طهوراً خالصاً ‏{‏فامسحوا‏}‏‏.‏

ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة، وبينت السنة أن المراد جميع العضو، فقال‏:‏ ‏{‏بوجوهكم وأيديكم منه‏}‏ أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ما يريد الله‏}‏ أي الغنى الغنى المطلق ‏{‏ليجعل عليكم‏}‏ وأغرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من حرج‏}‏ أي ضيق علماً منه بضعفكم، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صلى الله عليه وسلم، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم ‏{‏ولكن يريد ليطهركم‏}‏ أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه، عقلتم معناه أو لا، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن ‏{‏وليتم نعمته‏}‏ أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال ‏{‏عليكم‏}‏ لأجل تسهيلها، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به، إلا لمن لج طبعه في العوج، وتمادى في الغواية والجهل والبطر ‏{‏لعلكم تشكرون *‏}‏ أي وفعل ذلك كله‏.‏

هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء‏.‏ وفي رواية‏:‏ سقط قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً‏.‏ فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا‏:‏ ألا ترى ما صنعت عائشة‏؟‏ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال‏:‏ حبست النبي صلى الله عليه وسلم في قلادة، فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وفي رواية‏:‏ فأنزل الله آية التيمم ‏{‏فتيمموا‏}‏ فقال أسيد بن حضير‏:‏ لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر‏!‏ ما أنتم إلا بركة لهم، وفي رواية‏:‏ ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت‏:‏ فبعثنا البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته» وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير‏:‏ جزاك الله خيراً‏!‏ فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة «وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكيم ومزيد الامتنان به، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجناية نص خاص، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ولما كان في هذه المأمورات والمنهيات خروج عن المألوفات، وكانت الصلاة أوثق عرى الدين، وكان قد عبر عنها بالإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الأعمال، عطف عليها قوله تذكيراً بما يوجب القبول والانقياد‏:‏ ‏{‏واذكروا‏}‏ أي ذكر اتعاظ وتأمل واعتبار‏.‏

ولما كان المقصود من الإنعام غايته قال‏:‏ ‏{‏نعمة الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏عليكم‏}‏ أي في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، وفي غير ذلك من جميع النعم، وإنما لم تجمع لئلا يظن أن المقصود تعداد النعم، لا الندب إلى الشكر بتأمل أن هذا الجنس لا يقدر عليه غيره سبحانه وعظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يستحقه بجعل فعله سبحانه فعله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏وميثاقه‏}‏ أي عقده الوثيق ‏{‏الذي واثقكم به‏}‏ أي بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏قلتم سمعنا وأطعنا‏}‏ وفي ذلك تحذير من مثل ما أراد بهم شاس بن قيس، وتذكير بما أوجب له صلى الله عليه وسلم عليهم من الشكر بهدايته لهم إلى الإسلام المثمر لالتزام تلك العهود ليلة العقبة الموجبه للوفاء الموعود عليه الجنة، والتفات إلى قوله أول السورة ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ وحديث إسباغ الوضوء على المكاره مبيّن لحسن هذه التناسب‏.‏

ولما كان أمر الوفاء بالعهد صعباً، لا يقوم به إلا من صدقت عريقته وصلحت سريرته، وإنما يحمل عليه مخافة الله قال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي اجعلوا بينكم وبين ما يغضب الملك الأعظم‏.‏ الذي يفعل ما يشاء‏.‏ من نقض العهد وقاية من حسن القيام، لتكونوا في أعلى درجات وعيه، ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏عليم‏}‏ أي بالغ العلم ‏{‏بذات الصدور *‏}‏ أي أحوالها من سرائرها وإن كان صاحبها لم يعلمها لكونها لم تبرز إلى الوجود، وعلانيتها وإن صاحبها قد نسيها‏.‏

ولما تقدم القيام إلى الصلاة، وتقدم ذكر الأزواج المأمور فيهن بالعدل في أول النساء وأثنائها، وكان في الأزواج المذكورات هنا الكافرات، ناسب تعقيب ذلك بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان ولما كان العدل في غاية الصعوبة على الإنسان، فكان لذلك يحتاج المتخلق به إلى تدريب كبير ليصير صفة راسخة، عبر بالكون فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كونوا قوّامين‏}‏ أي مجتهدين في القيام على النساء اللاتي أخذتموهن بعهد الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وعلى غيرهن في الصلاة وغيرها من جميع الطاعات التي عاهدتم على الوفاء بها‏.‏

ولما كان مبنى السورة على الوفاء بالعهد الوثيق، وكان الوفاء بذلك إنما يخف على النفوس، ويصح النشاط فيه، ويعظم العزم عليه بالتذكير بجلالة موثقة وعدم انتهاك حرمته، لأن المعاهد إنما يكون باسمه ولحفظ وحده ورسمه، قدم قوله‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء‏.‏

بخلاف ما مضى في النساء‏.‏

ولما كان من جملة المعاقد عليه ليلة العقبة «ليلة تواثقوا على الإسلام» أن يقولوا الحق حيث ما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم، قال‏:‏ ‏{‏شهداء‏}‏ أي متيقظين محضرين أفهامكم غاية الإحضار بحيث لا يسد عنها شيء مما تريدون الشهادة به ‏{‏بالقسط‏}‏ أي العدل، وقال الإمام أبو حيان في نهره‏:‏ إن التي جاءت في سورة النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاحن، فبدئ فيها بالقيام لله إذ كان الأمر بالقيام لله أولاً أردع للمؤمنين، ثم أردف بالشهادة بالعدل، فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدئ فيها بما هو آكد وهو القسط، والتي في معرض العدواة والشنآن، بدئ فيها بالقيام لله، فناسب كل معرض ما جيء به إليه، وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 129‏]‏ وقوله ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ فناسب ذكر تقديم القسط، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط- انتهى‏.‏

ولما كان أمر بهذا الخبر، نهى مما يحجب عنه فقال‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم‏}‏ أي يحملنكم ‏{‏شنئان قوم‏}‏ أي شدة عداوة من لهم قوة على القيام في الأمور من المشركين، بحيث يخشى من إهمالهم ازدياد قوتهم ‏{‏على ألا تعدلوا‏}‏ أي أن تتركوا قصد العدل، وهو يمكن أن يدخل فيه بغض أهل الزوجة الكافرة أو ازدراؤها في شيء من حقوقها لأجل خسة دينها، فأمروا بالعدل حتى بين هذه المرأة الكافرة وضرّاتها المسلمات، وإذا كان هذا شأن الأمر به في الكافر فما الظن به في المسلم‏؟‏ ثم استأنف قوله آمراً بعد النهي تأكيداً لأمر العدل‏:‏ ‏{‏اعدلوا‏}‏ أي تحروا العدل واقصدوه في كل شيء حتى في هذه الزوجات وفيمن يجاوز فيكم الحدود، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم، فإن الذي منعكم من التجاوز وفيمن يجاوز فيكم الحدود، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم، فإن الذي منعكم من التجاوز خوفه يريكم من النصرة وصلاح الحال ما يسركم‏.‏

ولما كان ترك قصد العدل قد يقع لصاحبه العدل اتفاقاً، فيكون قريباً من التقوى، قال مستأنفاً ومعللاً‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي قصد العدل ‏{‏أقرب‏}‏ أي من ترك قصده ‏{‏للتقوى‏}‏ والإحسان الذي يتضمنه الصلح أقرب من العدل إليها، وتعدية ‏{‏أقرب‏}‏ بالام دون إلى المقتضية لنوع بعد زيادة في الترغيب- كما مر في البقرة؛ ولما كان الشيء لا يكون إلا بمقدماته، وكان قد علم من هذا أن العدل مقدمة التقوى، قال عاطفاً على النهي أو على نحو‏:‏ فاعدلوا‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية بالإحسان فضلاً عن العدل، ويؤيد كون الآية ناظرة إلى النكاح مع ما ذكر ختام آية الشقاق التي في أول النساء بقوله

‏{‏إن الله كان عليماً خبيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏، وختام قوله تعالى في أواخرها وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو اعراضاً بقوله ‏{‏فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ وختام هذه بقوله معللاً لما قبله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏خبير بما تعملون*‏}‏ لأن ما بين الزوجين ربما دق علمه عن إدراك غير العليم الخبير؛ وقالو أبو حيان‏:‏ لما كان الشنآن محله القلب، وهو الحامل على ترك العدل، أمر بالتقوى وأتى بصفة ‏{‏خبير‏}‏ ومعناها عليم ولكنها مما تختص بما لطف إدراكه انتهى‏.‏ ‏{‏وشهداء‏}‏ يمكن أن يكون من الشهادة التي هي حضور القلب- كما تقدم من قوله ‏{‏أو ألقى السمع وهو شهيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏ وأن يكون من الشهادة المتعارفة، ويوضح المناسبة فيها مع تأييد إرادتها كونها بعد قوله ‏{‏إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏ ومع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ وختام آية النساء التي في الشهادة بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ كما ختمت هذه بمثل ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما أمر سبحانه ونهى، بشر وحذر فقال‏:‏ ‏{‏وعد الله‏}‏ أي الملك الذي له الكمال المطلق فله كل شيء ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ‏{‏وعملوا‏}‏ تصديقاً لهذا الإقرار ‏{‏الصالحات‏}‏ وترك المفعول الثاني أقعد في باب البشارة، فإنه يحتمل كل خير، وتذهب النفس في تحريزه كل مذهب‏.‏

ولما كان الموعود شيئين‏:‏ فضلاً وإسقاط حق قدم الإسقاط تأميناً للخوف فقال واضعاً له موضع الموعود في صيغة دالة على الثبات والاختصاص‏:‏ ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ أي لما فرط منهم لما طبع الإنسان عليه من النقص نسياناً أو عمداً، بعمل الواجبات إن كان صغيرة، وبالتوبة إن كان كبيرة، وفيه إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ ولما أمنهم بالتجاوز أتبعه الجود بالعطاء فقال ‏{‏وأجر‏}‏ أي على قدر درجاتهم من حسن العمل ‏{‏عظيم *‏}‏ أي لا يدخل تفاوت درجاته تحت الحصر‏.‏

ولما قدم الوعد لأنه في سورة الذين آمنوا أتبعه الوعيد لأضدادهم، وهو أعظم وعد لأحبابه المؤمنين أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏ أي غطوا ما اتضح لعقولهم من أدلة الوحدانية ‏{‏وكذبوا‏}‏ أي زيادة على الستر بالعناد‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ على ما لها من العظمة في أنفسها وبإضافتها إلينا ‏{‏أولئك‏}‏ أي البغضاء البعداء من الرحمة خاصة ‏{‏أصحاب الجحيم *‏}‏ أي النار التي اشتد توقدها فاشتد احمرارها، فلا يراها شيء إلا أحجم عنها، فهم يلقون فيها بما أقدموا على ما هو أهل للإجحام عنه من التكذيب بما لا ينبغي لأحد التكذيب به، ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب‏.‏

ولما كان من الأجر ما يحصل من أسباب السعادة في الدنيا، قال تعالى ذاكراً لهم بعض ذلك مذكراً ببعض ما خاطبهم به ليقدموا على مباينة الكفرة ويقفوا عند حدوده كائنة ما كانت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي صدقوا بالله ورسوله وكتابه ‏{‏اذكروا نعمت الله‏}‏ أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏عليكم‏}‏ عظمها بإبهامها، ثم زادها تعظيماً بالتذكير بوقتها فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏همّ قوم‏}‏ أي لهم قوة ومنعه وقدرة على ما يقومون فيه ‏{‏أن يبسطوا إليكم أيديهم‏}‏ أي بالقتال والقتل، وهو شامل- مع ذكر من أسباب نزوله- لما اتفق صبيحة ليلة العقبة من أن قريشاً تنطست الحبر عن البيعة، فلما صح عندهم طلبوا أهل البيعة ففاتوهم إلا أنهم أدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة، وكلاهما كان نقيباً، فأما المنذر فأعجزهم، وأما سعد فأخذوه فربطوه وأقبلوا يضربونه، حتى خلصه الله منهم بجبير بن مطعم والحارث بن حرب بن أمية بما كان بينه وبينهما من الجوار، فكان في سوق الآية بعد آية الميثاق الذي أعظمه ما كان ليلة العقبة أعظم مذكر بذلك ‏{‏فكف أيديهم عنكم‏}‏ أي مع قلتكم وكثرتهم وضعفكم وقوتهم، ولم يكن لكم ناصر إلا الذي آمنتم به تلك الليلة وتوكلتم عليه وبايعتم رسوله، فكف ببعض الأعداء عنكم أيدي بعض، ولو شاء لسلطهم عليكم كما سلط ابن آدم على أخيه؛ وينبغي أن يعلم أن القصة التي عُزِيت في بعض التفاسير هنا إلى بني قريظة في الاستعانة في دية القتيلين إنما هي لبني النضير، وهي كانت سبب إجلائهم‏.‏

ولما أمرهم بذكر النعمة، عطف على ذلك الأمر الأمر بالخوف من المنعم أن يبدل نعمته بنقمة فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي الملك الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له، حذراً من أن يسلط عليكم أعداءكم ومن غير ذلك من سطواته‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ على الله وحده في كل حالة فتوكلوا، فإنه جدير بنصر من انقطع إليه ولم يعتمد إلا عليه، عطف على ذلك قوله تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف‏:‏ ‏{‏وعلى الله‏}‏ أي وحده لكونه لا مثل له ‏{‏فليتوكل المؤمنون *‏}‏ أي في كل وقت فإنه يمنعهم إذا شاء كهذا المنع وإن اشتد الخطب وتعاظم الأمر، فتوكلوا ولا تنكلوا عن أعدائكم الذين وعدكم الله أرضهم وديارهم وأبناءهم وتهابوا جموعهم كما هاب بنو إسرائيل- كما سيقص عليكم، وقوله هنا ‏{‏المؤمنون‏}‏ وفي قصة بني إسرائيل ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ شديد التآخي، معلم بمقامي الفريقين، وحينئذ حسن كل الحسن تعقيبها مع ما تقدم من أمر العقبة وأمر بني النضير في نقضهم عهدهم وغدرهم، بما هموا به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء الرحى عليه من سطح البيت الذي أجلسوه إلى جانبه، بقوله إشارة إلى أن اليهود ما زالوا على النقض قديماً، تحذيراً للمؤمنين من أن يكونوا مثلهم في النقض لئلا يحل بهم ما حل بهم من الصغار، وإعلاماً بأن عادته سبحانه في الإلزام بالتكاليف قديمة غير مخصوصة بهم، بل هي عامة لعباده وقد كلف أهل الكتاب، تشريفاً لهم بمثل ما كلفهم به، ورغبهم ورهبهم ليسابقوهم في الطاعة، فإن الأمر إذا عم هان، والإنسان إذا سابق اجتهد في أخذ الرهان، وأكد الخبر بذلك لئلا يظن لشدة انهماكهم في النفس أنه لم يسبق لهم عهد قبل ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله‏}‏ أي بما له من جميع الجلال والعظمة والكمال ‏{‏ميثاق بني إسرائيل‏}‏ أي العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة ‏{‏وبعثنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏منهم اثني عشر نقيباً‏}‏ أي شاهداً، على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم من الوفاء به- كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيباً وأخذنا منكم الميثاق على ما أحاله الإسلام- كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن تبوك‏:‏ «ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام» وأما تفصيله فمذكور في السير، والنقيب‏:‏ الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل‏:‏ عريف، لأنه يتعرفها، ومن ذلك المناقب وهي الفضائل، لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها ‏{‏وقال الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لبني إسرائيل، وأكد لتكرر جزعهم وتقلبهم فقال‏:‏ ‏{‏إني معكم‏}‏ وهو كناية عن الكفاية لأن القادر إذا كان مع أحد كان كذلك إذا لم يغضبه‏.‏

ولما أنهى الترغيب بالمعية استأنف بيان شرط ذلك بقوله مؤكداً لمثل ما مضى‏:‏ ‏{‏لئن اقمتم‏}‏ أي أنشأتم ‏{‏الصلاة‏}‏ أي التي هي صلة ما بين العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها؛ ولما كان المقصود من الإنفاق المؤاساة بالإيتاء قال‏:‏ ‏{‏وآتيتم الزكاة‏}‏ أي التي هي بين الحق والخلائق‏.‏

ولما كان الخطاب مع من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام، وكانوا في كل قليل يتردعون عن اتباعه أو كمال اتباعه، وكان سبحانه عالماً بأن ميلهم بعده يكون أكثر، فرتب في الأزل أنه تواتر إليهم بعده الرسل يحفظونهم عن الزيغ ويقومون منهم الميل قال‏:‏ ‏{‏وآمنتم برسلي‏}‏ أي أدمتم الإيمان بموسى عليه السلام، وجددتم الإيمان بمن يأتي بعده، فصدقتموهم في جميع ما يأمرونكم به ‏{‏وعزرتموهم‏}‏ أي ذببتم عنهم ونصرتموهم ومنعتموهم أشد المنع، والتعزير والتأزير من باب واحد‏.‏

ولما كان من أعظم المصدق للإيمان ونصر الرسل بذل المال فهو البرهان قال‏:‏ ‏{‏وأقرضتم الله‏}‏ أي الجامع لكل وصف جميل ‏{‏قرضاً حسناً‏}‏ أي بالإنفاق في جميع سبل الخير، وأعظمها الجهاد والإعانة فيه للضعفاء‏.‏

ولما كان الإنسان محل النقصان، فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صالح العمل، قال سادّاً‏.‏ بجواب القسم الذي وطّأت له اللام الداخلة على الشرط- مسدّ جواب الشرط‏:‏ ‏{‏لأكفرن‏}‏ أي لأسترن ‏{‏عنكم سيئاتكم‏}‏ أي فعلكم لما من شأنه أن يسوء ‏{‏ولأدخلنكم‏}‏ أي فضلاً مني ‏{‏جنات تجري‏}‏ ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال‏:‏ ‏{‏من تحتها الأنهار‏}‏ أي من شدة الريّ ‏{‏فمن كفر‏}‏ ولما كان الله سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولاً‏.‏ وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله، نزع الجار فقال‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن ‏{‏منكم‏}‏ أي بعد ما رأى من الآيات واقرّ به من المواثيق ‏{‏فقد ضل‏}‏ أي ترك وضيّع، يُستعمل قاصراً بمعنى‏:‏ حار، ومتعدياً كما هنا ‏{‏سواء‏}‏ أي وسط وعدل ‏{‏السبيل *‏}‏ أي لأن ذلك كفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره، وفي هذا تحذير شديد لهذه الأمة، لأن المعنى‏:‏ فإن نقضتم الميثاق- كما نقضوا- بمثل استدراج شاس بن قيس وغيره، صنعنا بكم ما صنعنا بهم حين نقضوا، من إلزامهم الذلة والمسكنة وغير ذلك من آثار الغضب، وإن وفيتم بالعقود آتيناكم أعظم مما آتيناهم من فتح البلاد والظهور على سائر العباد؛ قال ابن الزبير‏:‏ ولهذا الغرض والله أعلم- أي غرض التحذير من نقض العهد- ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى

‏{‏أوفوا بعهدي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل‏}‏ إلى قوله ‏{‏فقد ضل سواء السبيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏ ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 55 والمائدة‏:‏ 13‏]‏ وذكر تعالى عهد الآخرين فقال ‏{‏ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏ ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة، وإسرافهم في القتل وغيره، وتغييرهم أحكام التوراة- إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏ انتهى‏.‏ وينبغي ذكر النقباء من هذه الفرق الثلاث بأسمائهم وما دعي إلى ذلك تحقيقاً للأمر وزيادة تبصرة، أما اليهود فكان فيهم ذلك مرتين‏:‏ الأولى‏:‏ قال في السفر الرابع من التوراة‏:‏ إن الرب تبارك اسمه كلم موسى النبي في جبل سينا وفي قبة الأمد في أول يوم من الشهر الثاني في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر وقال الله‏:‏ احص عدد جماعة بني إسرائيل كلها في قبائلهم‏.‏ كل ذكر من أبناء عشرين سنة إلى فوق، كل من يخرج في الحرب، وأحصهم أنت وأخوك هارون، وليكن معكما من كل سبط رجل ويكون الرجل رئيساً في بيته، ثم بين بعد ذلك أن كل رجل منهم يكون قائد جماعته، ينزلون بنزوله حول قبة الزمان ويرحلون برحيله، ويطيعونه فيما يأمر به، ففعل موسى وهارون ما أمرهما الله به وانتدبوا اثني عشررجلاً كما أمر الله، فمن سبط روبيل‏:‏ إليصور بن شداور، ومن سبط شمعون‏:‏ سلوميل بن صور يشدي، ومن سبط يهودا‏:‏ نحسون بن عمينا ذاب، ومن سبط إيشاخار‏:‏ نتنائيل بن ضوغر، ومن سبط زابلون‏:‏ أليب بن حيلون، ومن سبط يوسف من آل إفرائيم‏:‏ إليسمع بن عميهوذ‏.‏ ومن سبط منشا‏:‏ جماليال بن فداهصور- قلت‏:‏ ومنشا هو ابن يوسف وهو أخو إفرائيم- ومن سبط بنيامين‏:‏ أبيذان بن جدعوني، ومن سبط دان‏:‏ أخيعزر بن عميشدي، ومن سبط آشير‏:‏ فجعائيل بن عخرن، ومن سبط جاد‏:‏ إليساف بن دعوائيل، ومن سبط نفتالي‏:‏ أخيراع ابن عينان؛ وسبط لاوي هم سبط موسى وهارون عليهما السلام لم يذكروا لأنهم كانوا لحفظ قبة الزمان، فموسى وهارون عليهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم على قومه- كما سيأتي، والمرة الثانية كانت ليجسّوا أمر بيت المقدس، قال في أثناء هذا السفر‏:‏ وكلم الرب موسى وقال له‏:‏ أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل، وليكون الذين ترسل رجلاً من كل سبط من رؤساء آبائهم، فأرسلهم موسى من برية فاران عن قول الرب، رجالاً من رؤساء بني إسرائيل، وهذه أسماءهم من سبط روبيل‏:‏ ساموع بن ذكور، ومن سبط شمعون‏:‏ سافاط بن حوري، ومن سبط يهودا‏:‏ كالاب بن يوفنا، ومن سبط إيشاخار‏:‏ إجال بن يوسف، ومن سبط إفرائيم‏:‏ هو ساع بن نون، ومن سبط بنيامين‏:‏ فلطي بن رافو، ومن سبط زابلون‏:‏ جدي إيل بن سودي، ومن سبط يوسف من سبط منشا‏:‏ جدي بن سوسي، ومن سبط دان‏:‏ عميال بن جملي، ومن سبط آشير‏:‏ ساتور بن ميخائيل، ومن سبط نفتالي‏:‏ نجني بن وفسي، ومن سبط جاد‏:‏ جوائل بن ماخي؛ هؤلاء الذين أرسلهم وتقدم إليهم بالوصية‏.‏

وأما النصارى ففي إنجيل متى ما نصه‏:‏ ودعا يعني عيسى عليه السلام‏.‏ تلاميذه الاثني عشر، وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض؛ وفي إنجيل مرقس‏:‏ وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه، ولكي يرسلهم ليكروزا، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وإشفاء المرضى، وأرسلهم يكرزون مملكوت الله ويشفون الأوجاع، وهذه أسماؤهم‏:‏ شمعون المسمى بطرس، وأندراوس أخوه، ويعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه- وقال في إنجيل مرقس‏:‏ وسماهما باسم بوانرجس اللذين هما ابنا الرعد- وفيلبس، وبرتولوماوي، وتوما، ومتى العَشّار، ويعقوب بن حلفا، وليا الذي يدعى بداوس وقد اختلفت الأناجيل في هذا، ففي إنجيل مرقس بدله‏:‏ تدي، وفي إنجيل لوقا‏:‏ يهودا بن يعقوب، ثم اتفقوا‏:‏ وشمعون القاناني- وفي إنجيل لوقا‏:‏ المدعو الغيور- ويهودا الإسخريوطي الذي أسلمه‏.‏ وأما نقباء الإسلام فكانوا ليلة العقبة الأخيرة حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار رضي الله عنهم على الحرب وأن يمنعوه إذا وصل إلى بلدهم، وقال لهم صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم كما اختار موسى من قومه، وأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً‏:‏ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال لهم‏:‏ أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي، قالوا‏:‏ نعم، وهذه اسماؤهم من الخزرج‏:‏ أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، وعبادة بن الصامت، والمنذر بن عمرو؛ ومن الأوس‏:‏ أسيد بن حضير، وسعد بن خثيمة، ورفاعة بن عبد المنذر، وأبو الهيثم بن التيهان، قال ابن هشام‏:‏ وقال كعب بن مالك يذكرهم فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري وذكر أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة فقال‏:‏

أبلغ أبيّاً أنه قال رأيه *** وحان غداة الشعب والحين واقع

أبى الله ما منتك نفسك إنه *** بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع

وأبلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا *** بأحمد نور من هدى الله ساطع

فلا ترغبن في حشد أمر تريده *** وألب وجمع كل ما أنت جامع

ودونك فاعلم أن نقض عهودنا *** أباه عليك الرهط حين تبايعوا

أباه البراء وابن عمرو كلاهما *** وأسعد يأباه عليك ورافع

وسعد أباه الساعدي ومنذر *** لأنفك إن حاولت ذلك جادع

وما ابن ربيع إن تناولت عهده *** بمسلمه لا يطمعن ثم طامع

وأيضاً فلا يعطيكه ابن رواحة *** وإخفاره من دونه السم ناقع

وفاء به والقوقلي بن صامت *** بمندوحة عما تحاول يافع

أبو هيثم أيضاً وفى بمثلها *** وفاء بما أعطى من العهد خانع

وما ابن حضير إن أردت بمطمع *** فهل أنت عن أحموقة الغي نازع

وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه *** ضروح لما حاولت ملأمر مانع

اولاك نجوم لا يغبك منهم *** عليك بنحس في دجى الليل طالع

فأما نقباء اليهود في جسّ الأرض فلم يوف منهم إلا اثنان- كما سيأتي قريباً عن بعض التوراة التي بين أيديهم، وأما نقباء النصارى فنقض منهم واحد- كما مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، وأما نقباؤنا فكلهم وفي وبرّ بتوفيق الله وعونه فله أتم الحمد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه ما أخذ على اليهود من الميثاق ووعيده لهم إن كفروا بعد ذلك، ذكر أنهم نقضوا مرة بعد مرة- كما تقدم في سورة البقرة وغيرها كثير منه عن نص ما عندهم من التوراة- فاستحقوا ما هم فيه من الخزي، فقال تعالى مسبباً عما مضى مؤكداً بما النافية لضد ما أثبته الكلام‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ أي بتكذيب الرسل الآتين من بعد موسى عليه السلام، وقتلهم الأنبياء، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم في كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك لا بغير ذلك كما نقض بنو النضير فسلطكم الله عليهم بما أشار إليهم في سورة الحشر ‏{‏لعناهم‏}‏ أي أبعدناهم بعد أنا وعدناهم القرب بالكون معهم إن وفوا‏.‏

ولما كان البعيد قد يكون رقيق القلب، متأسفاً على بعده‏.‏ ساعياً في أسباب قربه، باقياً على عافية ربه، فيرجى بذلك له الغفران لذنبه‏.‏ أخبر أنهم على غير ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏قلوبهم قاسية‏}‏ أي صلبة عاسية بالغش فهي غير قابلة للنصحية، لأن الذهب الخالص يكون ليناً، والمغشوش يكون فيه يبس وصلابة، وكل لين قابل للصلاح بسهولة، ثم بين قساوتها بما دل على نقضهم بقوله‏:‏ ‏{‏يحرّفون الكلم‏}‏ أي يجددون كل وقت تحريفه ‏{‏عن مواضعه‏}‏ فإنهم كلما وجدوا شيئاً من كلام الله يشهد بضلالهم حرفوه إلى شهواتهم، وأولوه التأويل الباطل بأهوائهم، فهم يحرفون الكلم ومعانيها‏.‏

ولما كانوا قد تركوا أصلاً ورأساً ما لا يقدرون لصراحته على تحريفه، قال معبراً بالماضي إعلاماً بحرمهم بالبراءة من ذلك‏:‏ ‏{‏ونسوا حظاً‏}‏ أي نصيباً نافعاً معلياً لهم ‏{‏مما ذكروا به‏}‏ أي من التوراة على ألسنة أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم السلام، تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال‏:‏ قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية‏.‏

ولما ذكر سبحانه ما يفعلونه في حقه في كلامه الذي هو صفته، أتبعه ما يعم حقه وحق نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه معلم أن الخيانة ديدنهم، تسلية له صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تزال‏}‏ أي بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق‏!‏ ‏{‏تطلع‏}‏ أي تظهر ظهوراً بليغاً ‏{‏على خائنة‏}‏ أي خيانة عظيمة تستحق أن تسمي فاعلها الخؤون لشدتها و‏{‏منهم‏}‏ أي في حقك بقصد الأذى، وفي حق الله تعالى بإخفاء بعض ما شرعه لهم ‏{‏إلا قليلاً منهم‏}‏ فإنهم يكونون على نهج الاستقامة إما بالإيمان، وإما بالوفاء وهم متمسكون بالكفر، ثم سبب عن هذا الذي في حقه صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ ‏{‏فاعف عنهم‏}‏ أي امح ذنبهم ذلك الذي اجترحوه، وهو دون النقض والتحريف فلا تعاقبهم عليه‏.‏

ولما كان العفو لا يمنع المعاتبة قال‏:‏ ‏{‏واصفح‏}‏ أي وأعرض عن ذلك أصلاً ورأساً، فلا تعاتبهم عليه كما لم تعاقبهم، فإن ذلك إحسان منك، وإذا أحسنت أحبك الله ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏يحب المحسنين *‏}‏ وذلك- كما روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم وفي رواية للبخاري‏:‏ إنه رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقاً- حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وذلك أشد السحر، ثم إن الله تعالى شفاه وأعلمه أن السحر في بئر ذروان، فقالت له عائشة رضي الله عنها‏:‏ أفلا أخرجته‏؟‏ فقال‏:‏ لا، أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شراً، فأمر بها فدفنت، وهو في معجم الطبراني الكبير- وهذا لفظه- ومسند أبي يعلى الموصلي وسنن النسائي الكبرى ومسند عبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال‏:‏ «كان رجل يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار، فأتاه ملكان يعودانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما‏:‏ أتدري ما وجعه‏؟‏ قال‏:‏ فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري، فلو أرسل إليه رجلاً لوجد الماء أصفر، فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلّها فبرأ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه» وللشيخين عن أنس رضي الله عنه «أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت‏:‏ أردت لأقتلك، قال‏:‏ ما كان الله ليسلطك على ذلك- أو قال‏:‏ عليّ- قالوا‏:‏ فلا تقتلها‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فما زلت أعرفها في لهوات النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي رواية‏:‏ إنها كانت سبب موت النبي صلى الله عيله وسلم بانقطاع أبهره الشريف منها بعد سنين» وفي سنن أبي داود من وجه مرسل أنه قتل اليهودية‏.‏ والأول هو الصحيح، وسيأتي لهذا الحديث ذكر في هذه السورة عند ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، فهذا غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر الله سبحانه‏.‏

ولما دخل النصارى فيما مضى لأنهم من بني إسرائيل، خصهم بالذكر لأن كفرهم أشد وأسمج فقال‏:‏ ‏{‏ومن الذين قالوا‏}‏ أي مسمين أنفسهم ملزمين لها النصرة لله، مؤكدين قولهم رداً على من يرتاب فيه‏:‏ ‏{‏إنا نصارى‏}‏ أي مبالغون في نصرة الحق، فالتعبير بذلك دون ومن النصارى تنبيه على أنهم تسموا بما لم يفوا به ‏{‏أخذنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏ميثاقهم‏}‏ أي كما أخذ على الذين من قبلهم‏.‏

ولما كان كفرهم في غاية الظهور والجلاء، لم ينسبهم إلى غير الترك فقال‏:‏ ‏{‏فنسوا‏}‏ أي تركوا ترك الناسي ‏{‏حظاً‏}‏ أي نصيباً عظيماً يتنافس في مثله ‏{‏مما ذكروا به‏}‏ أي في الإنجيل مما سبق لهم ذكره في التوراة من أوصاف نبيه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الحق‏.‏

ولما أدى ذلك إلى تشعبهم فرقاً، فأنتج تشاحنهم وتقاطعهم وتدابرهم، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فأغرينا‏}‏ أي ألصقنا بعظمتنا إلصاق ما هو بالغراء لا ينفك بل يصير كجزء الشيء ‏{‏بينهم‏}‏ أي النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين بتفريق الدين، وكذا بينهم وبين اليهود ‏{‏العداوة‏}‏ ولما كان العداوة قد تكون عن بغي ونحوه إذا زال زالت أو خفت، قال معلماً أنها لأمر باطني نشأ من تزيين الهوى، فهو ثابت غير منفك‏:‏ ‏{‏والبغضاء‏}‏ بالأهواء المختلفة ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏‏.‏

ولما أخبر بنكدهم في الدنيا، أعقبه ما لهم في الأخرى فقال‏:‏ ‏{‏وسوف ينبئهم‏}‏ أي يخبرهم ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً إخباراً بعظيم الشأن بما فيه من عظم التقريع والتوبيخ في الآخرة بوعيد لا خلف فيه؛ ولما كانت خيانتهم قد صارت لهم فيها ملكات بما لازموا منها حتى ضربوا بها وتدربوا عليها، حتى صارت لهم أحوالاً لأنفسهم وأخلاقاً لقلوبهم، سماها صنائع فقال‏:‏ ‏{‏بما كانوا يصنعون *‏}‏ أي دربوا أنفسهم عليه حتى صار كالصنعة، فيجازيهم عليه بما يقيم عليهم من الحجة‏.‏